نديم المحبة
01-14-2012, 10:42 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن مسألة الموت تُعد من أعقد المسائل، التي واجهت الفكر الإنساني في مختلف مراحله، حيث كانت ولاتزال مثيرة للقلق والحيرة لدى الفلاسفة والمفكرين، لما فيها من الغموض والإبهام..
وقد اتجهت التيارات الفكرية بشكل عام في اتجاهين متعاكسين وهما:
الفكر المادي الجاهلي، الذي يرى أن الموت هو الفناء الأبدي، ولاشيء بعده..
أما الفكر الآخر، فهو الفكر الرسالي الإلهي، الذي يرى أن الموت هو امتداد لحياة الإنسان، وبداية لعالم جديد..
إنه غاية الحياة، وكمال نظامها، وهو من مصاديق العدل الإلهي..
إنه نهاية لمرحلة معينة من حياة الإنسان، وبداية لمرحلة أخرى لها قوانينها الخاصة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإيمان بالحياة بعد الموت، مرتبط بعقيدة المعاد، التي هي إحدى أصول العقيدة الإسلامية،
التي من أنكرها خرج عن كونه مسلما، وهذا ما يكسب موضوعنا أهمية خاصة..
وبالطبع فإن الفكر الرسالي يستمد قوته من رسالات السماء، وما ورد فيها من وصف دقيق لهذه المرحلة وما بعدها،
أسباب الخوف من الموت:
وتقترن بمسألة التحري عن أسرار الموت، مسألة الخوف من الموت،
التي قد يشعر بها كل إنسان في فترة ما من حياته، ولأجل تشخيص المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة لها..
فعلينا اولا أن نحدد الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى الخوف من الموت والرعب منه ,,
• الموت يمثل نهاية الحياة الدنيا بكل آمالها وطموحاتها، ولذا يثير حالة الرعب لدى الإنسان، خوفا من أن يفقد كل ما يملكه..
• الخوف الغريزي الذي أودعه الله في الإنسان وسائر المخلوقات، والذي يدعوها إلى النفور والفرار من الموت.. لأجل حفظ حياتها وحمايتها من المخاطر التي تحيط بها.
• إن مدارك الإنسان محدودة جدا، فرغم غزارة الآيات والأحاديث، التي تتحدث عن فترة ما بعد الموت، إلا أنها يبقى يلفها الغموض وعدم الوضوح،
بسبب ضيق أفق الإنسان، واختلاف المقاييس.. وبالتالي، فإن صعوبة رسم صورة جلية في مخيلته لما يرتقبه من أحداث ووقائع، مما يثير الخوف لديه.
• لقد أخبرت الآيات القرآنية عن مرحلة الاحتضار، وتلك الساعات الحرجة من حياة الإنسان، عندما تأتي سكرة الموت وغمرات الموت التي تغشى الظالمين..
وعندما تبدأ الروح بالإنسحاب من أطراف الجسد، حتى تبلغ التراقي (أعالي الصدر) ثم تصل إلى الحلقوم، حتى تخرج خروجا كاملا من البدن،
ويتناولها الله وافية دون نقصان.. ثم دخولها في العالم الآخر، حيث إما تتلقاها ملائكة العذاب، لتساق إلى مصيرها المحتوم، وتنال ما تستحق من عقاب،
أو تتلقاها ملائكة الرحمة بالبشرى والطمأنينة والسعادة الأبدية.. إنها حقا محطات حرجة وصعبة، تثير الخوف والقلق، وتستدعي التأمل والتفكير!..
• البعد عن الأجواء الإيمانية، وضعف العلاقة مع الله تعالى، فكلما كان الإنسان بعيدا عن الله تعالى، كلما كان تمسكه بالحياة الدنيا أكثر،
وخوفه من الموت أكبر (إذا كنت في إدبار، والموت في إقبال.. فما أسرع الملتقى!..) (من طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته).
الآن وبعد أن شخصنا الأسباب التي تجعلنا نخاف من الموت، وجب علينا أن نبحث عن وسائل ومرتكزات، تعيننا في تلك الساعات الحرجة، وما يليها من أهوال،
وتساعدنا للاستعداد الكامل لذلك العالم، وتهيىء لنا سبل النجاة من اليوم الثقيل.
علاج حالة الخوف من الموت:
إن الفكر الإسلامي يزخر بالكثير من المفاهيم والعقائد، التي تعطي رؤية وتصورا، لما يحدث بعد الموت..
لأجل الحث على التأهب التام لتلك المرحلة، وفيما يلي عدد من هذه المعتقدات والمفاهيم، التي تعين على تهوين مسألة الموت،
وتحويله من حالة سلبية في الحياة إلى حالة إيجابية،
وعلاج حالة الخوف منه:
• الإيمان بأن الموت انتقال من دار إلى دار : (خلقتم للأبد، وأنما تنقلون من دار إلى دار)، وأن هذه الدار ستكون للمؤمن المتقي خير دار صنعها بنفسه،
بعيدة عن الظلم والعدوان، وكل أنواع الشرور ( ما الموت إلا قنطرة تعبر بكم من البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم..
فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وهو لأعدائكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب).
• الرضا بقضاء الله وقدره: حيث جعل الموت والفناء نهاية المسيرة، وهذا ما لا مهرب منه { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...} ، وأن البقاء لله وحده،
والزوال أمر محتم.. : جاء جبرئيل إلى النبي عليه الصلاه والسلام فقال: يا محمد!.. عش ما شئت، فإنّك ميّت!.. وأحبب مَنْ شئت، فإنّك مفارقه!.. واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه)!..
ولن ينفعنا الفرار من الموت { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ،
وكذلك علينا أن ندرك أن الاعتراض على أمر الله سبحانه ومشيئته، مما يعرضنا لسخطه عز وجل ..
• الاعتقاد بأن في خلق الموت مصلحة وفائدة للإنسان: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ..
ففي خلق الموت حث على حسن العمل، وحتى تهون علينا مصائب الدنيا { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ،
إن الله تعالى هو أرحم الراحمين وأجود الأجودين، وقد اختار لنا الرجوع إليه بعد رحلة الحياة { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ،
وهو سبحانه الذي سيتناول هذه الأنفس وافية تامة، ويحيطها برعايته { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... } .
• التذكر أن الروح لاتفنى: وأن فترة انفصالها عن الجسد فترة مؤقتة، حتى يأذن الله تعالى وينفخ في الصور
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } ،
وأن أرواح المؤمنين تلتقي وتتعارف ، بعد أن تتحرر من الآلام الدنيوية.. وأن الموتى يشعرون بمن حولهم وهم (يفرحون بالهدية والزيارة، كما كانوا يفرحون بها في دار الدنيا)
وهذا ما يؤكد وجوب استمرار التواصل حتى بعد رحيل الإنسان، وذلك بالدعاء والزيارة وغيرها من أعمال البر.
• الإكثار من ذكر الموت: لحث النفس للعمل لما بعده (يابني!.. أكثر من ذكر الموت حتى يأتيك، وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك)،
( بادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله!.. وأعدوا له قبل نزوله!.. فإن الغاية القيامة).. وأن نكون متوازنين في تفاعلنا مع الأفراح والأحزان
(ما نلت من دنياك، فلا تكثر به فرحا.. وما فاتك منها، فلا تأس عليه جزعا.. وليكن همك فيما بعد الموت).
• الإيمان بأن الموت والحياة عمليتان متداخلتان ومتعاقبتان: وأن من يميتنا قادر على إحيائنا
{ فَانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ..
وأن الموت يأتي للإنسان في وقته، بعد أن يستوعب الإنسان مقدماته غالبا { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ... } .
• الفهم الواقعي لحقيقة الموت ، فالله يتوفى الأنفس ويقبضها إليه وافية تامة حين موتها ونومها
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ..
والفرق بين الموت والنوم -حسب التفاسير المعتبرة- أن النفس التي بها العقل والتمييز، تقبض عند النوم، وتبقى الروح التي بها التنفس والحركة
(ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه)، ولعل في هذا الموت اليومي أكبر عبرة لنا (كفى بالموت واعظا).
• الوعي الدائم للغاية الحقيقية من الموت: وهي الاختبار والابتلاء { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ،
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } .. فمن علم أن هناك نهاية لا مفر منها، وهناك حسابا وجزاء على الأعمال،
فإن عليه أن يستعد لذلك، ويعمل بجد لآخرته، ولايغتر بالدنيا، ولا يركن إليها، فهي زائلة لامحالة { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ..
وليعلم أن البلاء له في الدنيا أفضل من الحساب في الآخرة، وأنه مقياس لدرجة إيمانه (أشد الناس بلاء أهل الخير والصلاح، بعد الأنبياء والرسل).
• تربية النفس وتدريبها على حب الله والشوق إلى لقائه: من خلال كثرة ذكر الله والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، وإخلاص النية وصدق العمل..
(اللهم!.. فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك،
ذاكرة لسوابغ آلائك، مشتاقة إلى فرحة لقائك، متزودة التقوى ليوم جزائك، مستنة بسنن أوليائك، مفارقة لأخلاق أعدائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك).
• التأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام وكافة الأنبياء والصالحين: وأنهم قد صاروا جميعا إلى نفس النهاية التي نصير إليها، مع عظم منزلتهم عند الله،
وكذلك ذكر مصائبهم مما يؤدي إلى تهوين مصيبة الموت..
• أن يكون ذكر الموت حافزا لنا للعمل الدائم والمسابقة بالخيرات: (من ارتقب الموت، سارع إلى الخيرات) حتى تثقل كفة حسناتنا وأعمالنا الصالحة..
وأن نسعى دائما لإعمار الأرض، وتحقيق خلافة الإنسان لله على أفضل صورة (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا!.. واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!..)،
ولا يكون ذلك باليأس والقنوط وترقب الموت، بل بمراقبة أعمالنا، وتهذيب نفوسنا، واتباع الهدى، ورفض الشرك والضلال، وتربية أولادنا تربية طيبة،
ليكونوا خير معين يضاعف حسناتنا عند انقطاعنا عن الدنيا.. قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
الخلاصة:
من خلال استعراضنا للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، نستخلص أن مسألة الشعور بخطر الموت والخوف منه،
هي من أكبر مسببات القلق والخوف في الحياة.. إلا أن إدراك حقيقة الموت، تقلل من ذلك القلق والشعور بعدمية معنى الحياة..
فالموت ما هو إلا محطة من المحطات العديدة في حياتنا، ولا يمثل النهاية الأبدية مطلقا،
وإنه من رحمة الله تعالى بالمؤمنين خاصة، ليجدوا ثمرة أتعابهم وجهودهم الخيرة ..
وبذا يتحقق في نفس الإنسان الرضا والطمأنينة، ويحل محل الحزن والقلق..
لذا علينا أن نجهد أنفسنا لنكون حقا من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة ..
{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ..
إن مسألة الموت تُعد من أعقد المسائل، التي واجهت الفكر الإنساني في مختلف مراحله، حيث كانت ولاتزال مثيرة للقلق والحيرة لدى الفلاسفة والمفكرين، لما فيها من الغموض والإبهام..
وقد اتجهت التيارات الفكرية بشكل عام في اتجاهين متعاكسين وهما:
الفكر المادي الجاهلي، الذي يرى أن الموت هو الفناء الأبدي، ولاشيء بعده..
أما الفكر الآخر، فهو الفكر الرسالي الإلهي، الذي يرى أن الموت هو امتداد لحياة الإنسان، وبداية لعالم جديد..
إنه غاية الحياة، وكمال نظامها، وهو من مصاديق العدل الإلهي..
إنه نهاية لمرحلة معينة من حياة الإنسان، وبداية لمرحلة أخرى لها قوانينها الخاصة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإيمان بالحياة بعد الموت، مرتبط بعقيدة المعاد، التي هي إحدى أصول العقيدة الإسلامية،
التي من أنكرها خرج عن كونه مسلما، وهذا ما يكسب موضوعنا أهمية خاصة..
وبالطبع فإن الفكر الرسالي يستمد قوته من رسالات السماء، وما ورد فيها من وصف دقيق لهذه المرحلة وما بعدها،
أسباب الخوف من الموت:
وتقترن بمسألة التحري عن أسرار الموت، مسألة الخوف من الموت،
التي قد يشعر بها كل إنسان في فترة ما من حياته، ولأجل تشخيص المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة لها..
فعلينا اولا أن نحدد الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى الخوف من الموت والرعب منه ,,
• الموت يمثل نهاية الحياة الدنيا بكل آمالها وطموحاتها، ولذا يثير حالة الرعب لدى الإنسان، خوفا من أن يفقد كل ما يملكه..
• الخوف الغريزي الذي أودعه الله في الإنسان وسائر المخلوقات، والذي يدعوها إلى النفور والفرار من الموت.. لأجل حفظ حياتها وحمايتها من المخاطر التي تحيط بها.
• إن مدارك الإنسان محدودة جدا، فرغم غزارة الآيات والأحاديث، التي تتحدث عن فترة ما بعد الموت، إلا أنها يبقى يلفها الغموض وعدم الوضوح،
بسبب ضيق أفق الإنسان، واختلاف المقاييس.. وبالتالي، فإن صعوبة رسم صورة جلية في مخيلته لما يرتقبه من أحداث ووقائع، مما يثير الخوف لديه.
• لقد أخبرت الآيات القرآنية عن مرحلة الاحتضار، وتلك الساعات الحرجة من حياة الإنسان، عندما تأتي سكرة الموت وغمرات الموت التي تغشى الظالمين..
وعندما تبدأ الروح بالإنسحاب من أطراف الجسد، حتى تبلغ التراقي (أعالي الصدر) ثم تصل إلى الحلقوم، حتى تخرج خروجا كاملا من البدن،
ويتناولها الله وافية دون نقصان.. ثم دخولها في العالم الآخر، حيث إما تتلقاها ملائكة العذاب، لتساق إلى مصيرها المحتوم، وتنال ما تستحق من عقاب،
أو تتلقاها ملائكة الرحمة بالبشرى والطمأنينة والسعادة الأبدية.. إنها حقا محطات حرجة وصعبة، تثير الخوف والقلق، وتستدعي التأمل والتفكير!..
• البعد عن الأجواء الإيمانية، وضعف العلاقة مع الله تعالى، فكلما كان الإنسان بعيدا عن الله تعالى، كلما كان تمسكه بالحياة الدنيا أكثر،
وخوفه من الموت أكبر (إذا كنت في إدبار، والموت في إقبال.. فما أسرع الملتقى!..) (من طلب الدنيا طلبته الآخرة، فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته).
الآن وبعد أن شخصنا الأسباب التي تجعلنا نخاف من الموت، وجب علينا أن نبحث عن وسائل ومرتكزات، تعيننا في تلك الساعات الحرجة، وما يليها من أهوال،
وتساعدنا للاستعداد الكامل لذلك العالم، وتهيىء لنا سبل النجاة من اليوم الثقيل.
علاج حالة الخوف من الموت:
إن الفكر الإسلامي يزخر بالكثير من المفاهيم والعقائد، التي تعطي رؤية وتصورا، لما يحدث بعد الموت..
لأجل الحث على التأهب التام لتلك المرحلة، وفيما يلي عدد من هذه المعتقدات والمفاهيم، التي تعين على تهوين مسألة الموت،
وتحويله من حالة سلبية في الحياة إلى حالة إيجابية،
وعلاج حالة الخوف منه:
• الإيمان بأن الموت انتقال من دار إلى دار : (خلقتم للأبد، وأنما تنقلون من دار إلى دار)، وأن هذه الدار ستكون للمؤمن المتقي خير دار صنعها بنفسه،
بعيدة عن الظلم والعدوان، وكل أنواع الشرور ( ما الموت إلا قنطرة تعبر بكم من البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم..
فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وهو لأعدائكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب).
• الرضا بقضاء الله وقدره: حيث جعل الموت والفناء نهاية المسيرة، وهذا ما لا مهرب منه { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ...} ، وأن البقاء لله وحده،
والزوال أمر محتم.. : جاء جبرئيل إلى النبي عليه الصلاه والسلام فقال: يا محمد!.. عش ما شئت، فإنّك ميّت!.. وأحبب مَنْ شئت، فإنّك مفارقه!.. واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه)!..
ولن ينفعنا الفرار من الموت { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ،
وكذلك علينا أن ندرك أن الاعتراض على أمر الله سبحانه ومشيئته، مما يعرضنا لسخطه عز وجل ..
• الاعتقاد بأن في خلق الموت مصلحة وفائدة للإنسان: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ..
ففي خلق الموت حث على حسن العمل، وحتى تهون علينا مصائب الدنيا { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ،
إن الله تعالى هو أرحم الراحمين وأجود الأجودين، وقد اختار لنا الرجوع إليه بعد رحلة الحياة { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ،
وهو سبحانه الذي سيتناول هذه الأنفس وافية تامة، ويحيطها برعايته { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... } .
• التذكر أن الروح لاتفنى: وأن فترة انفصالها عن الجسد فترة مؤقتة، حتى يأذن الله تعالى وينفخ في الصور
{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } ،
وأن أرواح المؤمنين تلتقي وتتعارف ، بعد أن تتحرر من الآلام الدنيوية.. وأن الموتى يشعرون بمن حولهم وهم (يفرحون بالهدية والزيارة، كما كانوا يفرحون بها في دار الدنيا)
وهذا ما يؤكد وجوب استمرار التواصل حتى بعد رحيل الإنسان، وذلك بالدعاء والزيارة وغيرها من أعمال البر.
• الإكثار من ذكر الموت: لحث النفس للعمل لما بعده (يابني!.. أكثر من ذكر الموت حتى يأتيك، وقد أخذت منه حذرك، وشددت له أزرك)،
( بادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله!.. وأعدوا له قبل نزوله!.. فإن الغاية القيامة).. وأن نكون متوازنين في تفاعلنا مع الأفراح والأحزان
(ما نلت من دنياك، فلا تكثر به فرحا.. وما فاتك منها، فلا تأس عليه جزعا.. وليكن همك فيما بعد الموت).
• الإيمان بأن الموت والحياة عمليتان متداخلتان ومتعاقبتان: وأن من يميتنا قادر على إحيائنا
{ فَانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ..
وأن الموت يأتي للإنسان في وقته، بعد أن يستوعب الإنسان مقدماته غالبا { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ... } .
• الفهم الواقعي لحقيقة الموت ، فالله يتوفى الأنفس ويقبضها إليه وافية تامة حين موتها ونومها
{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ..
والفرق بين الموت والنوم -حسب التفاسير المعتبرة- أن النفس التي بها العقل والتمييز، تقبض عند النوم، وتبقى الروح التي بها التنفس والحركة
(ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء، وبقيت روحه في بدنه)، ولعل في هذا الموت اليومي أكبر عبرة لنا (كفى بالموت واعظا).
• الوعي الدائم للغاية الحقيقية من الموت: وهي الاختبار والابتلاء { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ،
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } .. فمن علم أن هناك نهاية لا مفر منها، وهناك حسابا وجزاء على الأعمال،
فإن عليه أن يستعد لذلك، ويعمل بجد لآخرته، ولايغتر بالدنيا، ولا يركن إليها، فهي زائلة لامحالة { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ..
وليعلم أن البلاء له في الدنيا أفضل من الحساب في الآخرة، وأنه مقياس لدرجة إيمانه (أشد الناس بلاء أهل الخير والصلاح، بعد الأنبياء والرسل).
• تربية النفس وتدريبها على حب الله والشوق إلى لقائه: من خلال كثرة ذكر الله والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، وإخلاص النية وصدق العمل..
(اللهم!.. فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك،
ذاكرة لسوابغ آلائك، مشتاقة إلى فرحة لقائك، متزودة التقوى ليوم جزائك، مستنة بسنن أوليائك، مفارقة لأخلاق أعدائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك).
• التأسي برسول الله عليه الصلاة والسلام وكافة الأنبياء والصالحين: وأنهم قد صاروا جميعا إلى نفس النهاية التي نصير إليها، مع عظم منزلتهم عند الله،
وكذلك ذكر مصائبهم مما يؤدي إلى تهوين مصيبة الموت..
• أن يكون ذكر الموت حافزا لنا للعمل الدائم والمسابقة بالخيرات: (من ارتقب الموت، سارع إلى الخيرات) حتى تثقل كفة حسناتنا وأعمالنا الصالحة..
وأن نسعى دائما لإعمار الأرض، وتحقيق خلافة الإنسان لله على أفضل صورة (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا!.. واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!..)،
ولا يكون ذلك باليأس والقنوط وترقب الموت، بل بمراقبة أعمالنا، وتهذيب نفوسنا، واتباع الهدى، ورفض الشرك والضلال، وتربية أولادنا تربية طيبة،
ليكونوا خير معين يضاعف حسناتنا عند انقطاعنا عن الدنيا.. قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
الخلاصة:
من خلال استعراضنا للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، نستخلص أن مسألة الشعور بخطر الموت والخوف منه،
هي من أكبر مسببات القلق والخوف في الحياة.. إلا أن إدراك حقيقة الموت، تقلل من ذلك القلق والشعور بعدمية معنى الحياة..
فالموت ما هو إلا محطة من المحطات العديدة في حياتنا، ولا يمثل النهاية الأبدية مطلقا،
وإنه من رحمة الله تعالى بالمؤمنين خاصة، ليجدوا ثمرة أتعابهم وجهودهم الخيرة ..
وبذا يتحقق في نفس الإنسان الرضا والطمأنينة، ويحل محل الحزن والقلق..
لذا علينا أن نجهد أنفسنا لنكون حقا من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة ..
{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ..