جبل الهدا
01-08-2014, 09:34 PM
معلمتي.. "مأكولة مذمومة"
أعتز كثيرا ببنات وطني، خاصة اللاتي لا يطلبن من الحياة سوى أن يكن مستقلات بأنفسهن ولو ذهبن للعمل في آخر بقعة من المملكة
لو سألتني عن الوظيفة التي لا أفكر في يوم من الأيام أن أقوم بها، لقلت لك بكل بساطة أن أكون "معلمة"!
هل تريدني أن أكون صادقة معك؟! نعم، لا أريد أن أكون معلمة أبدا، فهل يعقل أن أضيع شبابي كله، في أداء أهم رسالة كونية، دون أن أحظى ولو ببعض الاحترام والتقدير؟! فالراتب متواضع لو تمت مقارنته على سبيل المثال بالشركات الخاصة، والعلاوات شبه غائبة وفقيرة إن وجدت، والتشجيع غير موجود، إضافة إلى غياب التقدير الاجتماعي. لماذا أعمل في وظيفة أتعرض فيها بشكل يومي إلى مزاجية المديرة أو الوكيلة، التي جاءت إلى المنصب "لتفش" مشاكلها وضغوطها النفسية بي، وإذا لم أتناسب مع مزاجها أو تقبيلي ليدها كل صباح، فإني بذلك ربما أتعرض للمساءلة أو للإهانات المتكررة. كيف تطلب مني أن أظهر بكامل احترامي أمام أرتال هائلة من الطالبات، أبذل قصارى جهدي لإيصال المعلومات لهن، وأنا أعيش كل يوم تحت ضغوط إدارية، وضغوط لوزارة لا تفهم كيف تقدرني، أو تضعني في المكان الذي يلائمني، بل على العكس تجبرني أن أكون في هذا المكان دون رغبتي، وتنقلني لذاك المكان أيضا دون رغبتي، ولا تسعى مطلقا إلى أن تجعلني موظفا حالي كحال أي موظفي الدولة. إنها تمارس الضغط والقمع أحيانا دون أن تعلم، في نهاية الأمر فأنا أعيش معلمة وأموت معلمة، دون أن يكون لدّي خيار آخر!.
والآن، هل تريد أن تعرف متى أشعر بأني قليلة الحيلة، وبأني أتمنى لو أمتلك مصباح علاء الدين؟ حينما أفتح أي جريدة محلية، وأقرأ خبرا كئيبا عن إصابة عدد من المعلمات أو وفاتهن في حادث سيارة، أثناء ذهابهن عبر طرق وعرة وغير مرصوفة إلى مدارسهن في قرى أو هجر، لم ترها يوما على خارطة المملكة، ولا ضير في ذلك، لكن هل ثمة بدلات لكل هذه المشقة؟ هل هناك زيادة في المرتب الذي يجعلني أغامر بحياتي؟ الألم هنا وأنا أتخيل لو أن إحداهن كانت معلمتي، كيف سيكون شعوري وأنا أنتظر قدومها صباحا، ويأتي الخبر المزعج بأن معلمتي قد أصيبت في حادث على الطريق هي وزميلاتها؛ لأن الوزارة لا تفهم أن معلمتي من سكان حفر الباطن وعليها أن تقوم بالتدريس في وادي حنيفة؛ ولأن معلمتي الحاصلة على بكالوريوس تربوي لا تريد أن تقضي حياتها كلها في البيت أو في انتظار عريس الغفلة، لذا فهي تقبل بأي وظيفة في التعليم؛ لأن المجتمع ما يزال ينظر إلى العمل في مجال مختلط تدور حوله الكثير من الشكوك والآثام، لذا فهي تقبل بأي وظيفة تعليمية في أي مكان؛ لأنها تعيش على الأمل، أن تتغير الأنظمة، أن يفرج عن علاء الدين من محبسه، أن تتحقق الأمنيات، أو أن تحصل على واسطة سريعة.
أذكر أن أختي حينما قبلت كمعلمة في هجرة "الصرّار"، كنت أستيقظ أحيانا على صوت مزلاج الباب في الخامسة صباحا وأحيانا في الرابعة والنصف فجرا، تخرج برفقة زميلاتها لتنطلق في طريق يقرب من الساعتين، وكان راتبها في ذلك الوقت أربعة آلاف ريال، تدفع نصفه للسائق الذي قرر فجأة الهرب من كفيله، وترك المعلمات في حيرة من أمرهن حول كيفية عودتهن إلى أسرهن، كنت أشعر بالتعاطف ليس فقط مع أختي، ولكن مع كل فتاة من وطني تواجه ذلك الأمل في وجود وظيفة، تكفل لها حق العيش والوجود المحترم.
أعتز كثيرا ببنات وطني، خاصة اللاتي لا يطلبن من الحياة سوى أن يكن مستقلات بأنفسهن، ولو ذهبن للعمل في آخر بقعة من المملكة. ولا يكتفين فقط بالغربة النفسية داخل الوطن، وإنما يتعرضن لكثير من الأمور التي يجهلها البعض منا، أحيانا الاضطهاد والعنصرية من مديرة المدرسة، ومن إدارة التعليم، ومن حتى العاملة التي تدفع المعلمات مرتبها الشهري.
ماذا يتبقى في رأسي عن المدرسة وماذا يدور داخلها؟ برغم أنني أتذكر جيدا أننا كنا كطالبات نتحمل مزاجية الكثير من المعلمات، كنا نعرف المعلمة منذ أن يتكور الجنين داخل أحشائها، لا تسألونا كيف، لكننا نعرف ونشعر بالسعادة كلما كبر بطن إحداهن، كما كنا نعرف كيف يبدو مزاجهن، سيئا أو حسنا، كان ثمة تعاطف يربطنا نحن الطالبات بمعلماتنا، حتى حينما تأتي لتخبرنا بوجود موجهة المادة، كنا ندرك أهمية نجاح معلمتنا، لذا فكنا نلتزم الأدب من أجلها، ومن أجل مصلحتها الشخصية. أشياء كثيرة تربطنا بهذا الكائن الذي كان يبذل كل جهوده من أجلنا، لكنه ويا للأسف كائن مسكين. بعد أن كبرت وحصلت على وظيفة جيدة جدا، أتذكر الجهود التي أبذلها، وأقارنها بجهود معلماتي، حيث إني أتغير يوما بعد يوم، وحقوقي تصل لي باسم قانون الدولة والشركة، فيما يكسر قلبي ما يحدث لمعلماتي، اللاتي عشن معلمات وتقاعدن معلمات، وانكسرن كثيرا، ودفعن الكثير من أوقاتهن في تصحيح وتدقيق الاختبارات والعلامات الشهرية، وأحيانا في شراء الهدايا التشجيعية، وأشياء كثيرة، أولها أنني أحصل مثلا على علاج مجاني وبدل سكن من الشركة، فيما أن معلمتي التي تعمل في المدرسة والبيت أيضا، تتقاعد دون أن تكرمها الدولة بهاتين الخاصيتين.
في اليابان على سبيل المثال، المعلم لهُ مكانة كبيرة جدا، إذ إنه لا يحق لأحد أن يفصل معلما أو مدرسا أو أستاذا جامعيا من عمله، حتى البرلمان ليست لهُ هذه الصلاحية والمعلم محمي بقوة القانون، وقوة تقدير المجتمع ما لم يرتكب جريمة بالمعني القانوني، ففي اليابان يتم التشديد في التعليم إلى درجة إرهاق التلميذ أحيانا خاصة في المراحل ما قبل الجامعية.
أما عندنا فالدراسة أصبحت أشبه بقراءة لجريدة حائط مدرسة، والمعلم والمعلمة أشبه بموظف بليد طغى عليه الزمن وتكبر، مأكول ومذوم!.
سارة مطر
صحيفة الوطن..
أعتز كثيرا ببنات وطني، خاصة اللاتي لا يطلبن من الحياة سوى أن يكن مستقلات بأنفسهن ولو ذهبن للعمل في آخر بقعة من المملكة
لو سألتني عن الوظيفة التي لا أفكر في يوم من الأيام أن أقوم بها، لقلت لك بكل بساطة أن أكون "معلمة"!
هل تريدني أن أكون صادقة معك؟! نعم، لا أريد أن أكون معلمة أبدا، فهل يعقل أن أضيع شبابي كله، في أداء أهم رسالة كونية، دون أن أحظى ولو ببعض الاحترام والتقدير؟! فالراتب متواضع لو تمت مقارنته على سبيل المثال بالشركات الخاصة، والعلاوات شبه غائبة وفقيرة إن وجدت، والتشجيع غير موجود، إضافة إلى غياب التقدير الاجتماعي. لماذا أعمل في وظيفة أتعرض فيها بشكل يومي إلى مزاجية المديرة أو الوكيلة، التي جاءت إلى المنصب "لتفش" مشاكلها وضغوطها النفسية بي، وإذا لم أتناسب مع مزاجها أو تقبيلي ليدها كل صباح، فإني بذلك ربما أتعرض للمساءلة أو للإهانات المتكررة. كيف تطلب مني أن أظهر بكامل احترامي أمام أرتال هائلة من الطالبات، أبذل قصارى جهدي لإيصال المعلومات لهن، وأنا أعيش كل يوم تحت ضغوط إدارية، وضغوط لوزارة لا تفهم كيف تقدرني، أو تضعني في المكان الذي يلائمني، بل على العكس تجبرني أن أكون في هذا المكان دون رغبتي، وتنقلني لذاك المكان أيضا دون رغبتي، ولا تسعى مطلقا إلى أن تجعلني موظفا حالي كحال أي موظفي الدولة. إنها تمارس الضغط والقمع أحيانا دون أن تعلم، في نهاية الأمر فأنا أعيش معلمة وأموت معلمة، دون أن يكون لدّي خيار آخر!.
والآن، هل تريد أن تعرف متى أشعر بأني قليلة الحيلة، وبأني أتمنى لو أمتلك مصباح علاء الدين؟ حينما أفتح أي جريدة محلية، وأقرأ خبرا كئيبا عن إصابة عدد من المعلمات أو وفاتهن في حادث سيارة، أثناء ذهابهن عبر طرق وعرة وغير مرصوفة إلى مدارسهن في قرى أو هجر، لم ترها يوما على خارطة المملكة، ولا ضير في ذلك، لكن هل ثمة بدلات لكل هذه المشقة؟ هل هناك زيادة في المرتب الذي يجعلني أغامر بحياتي؟ الألم هنا وأنا أتخيل لو أن إحداهن كانت معلمتي، كيف سيكون شعوري وأنا أنتظر قدومها صباحا، ويأتي الخبر المزعج بأن معلمتي قد أصيبت في حادث على الطريق هي وزميلاتها؛ لأن الوزارة لا تفهم أن معلمتي من سكان حفر الباطن وعليها أن تقوم بالتدريس في وادي حنيفة؛ ولأن معلمتي الحاصلة على بكالوريوس تربوي لا تريد أن تقضي حياتها كلها في البيت أو في انتظار عريس الغفلة، لذا فهي تقبل بأي وظيفة في التعليم؛ لأن المجتمع ما يزال ينظر إلى العمل في مجال مختلط تدور حوله الكثير من الشكوك والآثام، لذا فهي تقبل بأي وظيفة تعليمية في أي مكان؛ لأنها تعيش على الأمل، أن تتغير الأنظمة، أن يفرج عن علاء الدين من محبسه، أن تتحقق الأمنيات، أو أن تحصل على واسطة سريعة.
أذكر أن أختي حينما قبلت كمعلمة في هجرة "الصرّار"، كنت أستيقظ أحيانا على صوت مزلاج الباب في الخامسة صباحا وأحيانا في الرابعة والنصف فجرا، تخرج برفقة زميلاتها لتنطلق في طريق يقرب من الساعتين، وكان راتبها في ذلك الوقت أربعة آلاف ريال، تدفع نصفه للسائق الذي قرر فجأة الهرب من كفيله، وترك المعلمات في حيرة من أمرهن حول كيفية عودتهن إلى أسرهن، كنت أشعر بالتعاطف ليس فقط مع أختي، ولكن مع كل فتاة من وطني تواجه ذلك الأمل في وجود وظيفة، تكفل لها حق العيش والوجود المحترم.
أعتز كثيرا ببنات وطني، خاصة اللاتي لا يطلبن من الحياة سوى أن يكن مستقلات بأنفسهن، ولو ذهبن للعمل في آخر بقعة من المملكة. ولا يكتفين فقط بالغربة النفسية داخل الوطن، وإنما يتعرضن لكثير من الأمور التي يجهلها البعض منا، أحيانا الاضطهاد والعنصرية من مديرة المدرسة، ومن إدارة التعليم، ومن حتى العاملة التي تدفع المعلمات مرتبها الشهري.
ماذا يتبقى في رأسي عن المدرسة وماذا يدور داخلها؟ برغم أنني أتذكر جيدا أننا كنا كطالبات نتحمل مزاجية الكثير من المعلمات، كنا نعرف المعلمة منذ أن يتكور الجنين داخل أحشائها، لا تسألونا كيف، لكننا نعرف ونشعر بالسعادة كلما كبر بطن إحداهن، كما كنا نعرف كيف يبدو مزاجهن، سيئا أو حسنا، كان ثمة تعاطف يربطنا نحن الطالبات بمعلماتنا، حتى حينما تأتي لتخبرنا بوجود موجهة المادة، كنا ندرك أهمية نجاح معلمتنا، لذا فكنا نلتزم الأدب من أجلها، ومن أجل مصلحتها الشخصية. أشياء كثيرة تربطنا بهذا الكائن الذي كان يبذل كل جهوده من أجلنا، لكنه ويا للأسف كائن مسكين. بعد أن كبرت وحصلت على وظيفة جيدة جدا، أتذكر الجهود التي أبذلها، وأقارنها بجهود معلماتي، حيث إني أتغير يوما بعد يوم، وحقوقي تصل لي باسم قانون الدولة والشركة، فيما يكسر قلبي ما يحدث لمعلماتي، اللاتي عشن معلمات وتقاعدن معلمات، وانكسرن كثيرا، ودفعن الكثير من أوقاتهن في تصحيح وتدقيق الاختبارات والعلامات الشهرية، وأحيانا في شراء الهدايا التشجيعية، وأشياء كثيرة، أولها أنني أحصل مثلا على علاج مجاني وبدل سكن من الشركة، فيما أن معلمتي التي تعمل في المدرسة والبيت أيضا، تتقاعد دون أن تكرمها الدولة بهاتين الخاصيتين.
في اليابان على سبيل المثال، المعلم لهُ مكانة كبيرة جدا، إذ إنه لا يحق لأحد أن يفصل معلما أو مدرسا أو أستاذا جامعيا من عمله، حتى البرلمان ليست لهُ هذه الصلاحية والمعلم محمي بقوة القانون، وقوة تقدير المجتمع ما لم يرتكب جريمة بالمعني القانوني، ففي اليابان يتم التشديد في التعليم إلى درجة إرهاق التلميذ أحيانا خاصة في المراحل ما قبل الجامعية.
أما عندنا فالدراسة أصبحت أشبه بقراءة لجريدة حائط مدرسة، والمعلم والمعلمة أشبه بموظف بليد طغى عليه الزمن وتكبر، مأكول ومذوم!.
سارة مطر
صحيفة الوطن..